الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
: هذه الدار خارج القاهرة فيما بين قلعة الجبل وبركة الفيل بالخط الذي يقال له اليوم حدرة البقر كانت دارًا للأبقار التي برسم السواقي السلطانية ومنشرًا للزبل وفيه ساقية ثم إن الملك الناصر محمد بن قلاون أنشأها دارًا واصطبلًا وغرس بها عدّة أشجار وتولى عمارتها القاضي كريم الدين عبد الكريم الكبير فبلغ المصروف على عمارتها ألف ألف درهم وعرفت بالأمير طقتمر الدمشقيّ ثم عرفت بدار الأمير طاش تمر حمص أخضر وهذه الدار باقية إلى وقتنا هذا ينزلها أمراء الدولة. قصر بكتمر الساقي: هذا القصر من أعظم مساكن مصر وأجلّها قدرًا وأحسنها بنيانًا وموضعه تجاه الكبش على بركة الفيل أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون لسكن أجلّ أمراء دولته الأمير بكتمر الساقي وأدخل فيه أرض الميدان التي أنشأها الملك العادل كتبغا وقصد أن يأخذ قطعة من بركة الفيل ليتسع بها الإصطبل الذي للأمير بكتمر بجوار هذا القصر فبعث إلى قاضي القضاة شمس الدين الحريريّ الحنفيّ ليحكم باستبدالها على قاعدة مذهبه فامتنع من ذلك تنزهًا وتورّعًا واجتمع بالسلطان وحدّثه في ذلك فلما رأى كثرة ميل السلطان إلى أخذ الأرض نهض من المجلس مغضبًا وصار إلى منزله فارسل القاضي كريم الدين كبير ناظر الخواص إلى سراج الدين الحنفيّ عن أمر السلطان وقلده قضاء مصر منفردًا عن القاهرة فحكم باستبدال الأرض في غرة رجب سنة سبع عشرة وسبعمائة فلم يلبث سوى مدّة شهرين ومات في أوّل شهر رمضان فاستدعى السلطان قاضي القضاة شمس الدين الحريريّ وأعاده إلى ولايته وكمّل القصر والإصطبل على هيئة قلَّ ما رأت الأعين مثلها بلغت النفقة على العمارة في كل يوم مبلغ ألف وخمسمائة درهم فضة مع جاه العمل لأنّ العجل التي تحمل الحجارة من عند السلطان والحجارة أيضًا من عند السلطان والفعلة في العمارة أهل السجون المقيدون من المحابيس وقدِّر لو لم يكن في هذه العمارة جاه ولا سخرة لكن مصروفها في كل يوم مبلغ ثلاثة آلاف درهم فضة وأقاموا في عمارته مدّة عشرة أشهر فتجاوزت النفقة على عمارته ألف ألف درهم فضة عنها زيادة على خمسين ألف دينار سوى ما حمل وسوى من سخر في العمل وهو بنحو ذلك. فلما تمت عمارته سكنه الأمير بكتمر الساقي وكان له في إصطبله هذا مائة سطل نحاس لمائة سائس كل سائس على ستة أؤس خيل سوى ما كان له في الحشارات والنواحي من الخيل وكان من المغرب يغلق باب إصطبله فلا يصير لأحد به حس ولمّا تزوّج أنوك بن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون بابنة الأمير بكتمر الساقي في سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة خرج شوارها من هذا القصر وكان عدّة الحمالين ثمانمائة حمّال. المساند الزركش على أربعين حمَّالًا عدّتها عشرة مساند والمدوّرات ستة عشر حمالًا والكراسي اثنا عشر حمّالًا وكراسي لطاف أربعة حمالين وفضيات تسعة وعشرون حمّالًا وسلم الدكك أربة حمالين والدكك والتخوت الأبنوس المفضضة والموشقة مائة واثنين وستين حمالًا والنحاس الشامي اثنين وعشرين حمّالًا والبعلبكي المدهون اثني عشر حمّالًا والخونجات والمحافي والزبادي والنحاس تسعة وعشرين حمّالًا وصناديق الحوائج خاناه ستة حمالين وغير ذلك تتمة العدّة والبغال المحملة الفرش واللحف والبسط والصناديق التي فيها المصاغ تسعة وتسعين بغلًا. قال العلامة صلاح الدين خليل بن أيبك الصفديّ: قال لي المهذب الكاتب: الزركش والمصاغ ثمانون قنطارًا بالمصري ذهب ولمّا مات بكتمر هذا صار هذا الوقف من بعده من جملة أوقافه فتولى أمره وأمر سائر أوقافه أولاده حتى انقرض أولاده وأولاد أولاده فصار أمر الأوقاف إلى ابن ابنته وهو أحمد بن محمد بن قرطاي المعروف بأحمد بن بنت بكتمر وهذا القصر في غاية من الحسن ولا ينزله إلاّ أعيان الأمراء إلى أن كانت سنة سبع عشرة وثمانمائة وكان العسكر غائبًا عن مصر مع الملك المؤيد شيخ في محاربة الأمير نوروز الحافظي بدمشق عمد هذا المذكور إلى القصر فأخذ رخامه وشبابيكه وكثيرا من سقوفه وأبوابه وغير ذلك وباع الجميع وعمل بدل ذلك الرخام والبلاط وبدّل الشبابيك الحديد بالخشب وفطن به أعيان الناس فقصدوه وأخذوا منه أصنافًا عظيمة بثمن وبغير ثمن وهو الآن قائم البناء يسكنه الأمراء. الدار البيسرية: هذه الدار بخط بين القصرين من القاهرة كانت في آخر الدولة الفاطمية لما قويت شوكة الفرنج قد أُعيدت لمن يجلس فيها من قصاد الفرنج عندما تقرّر الأمر معهم على أن يكون نصف ما يحصل من مال البلد للفرنج فصار يجلس في هذه الدار قاصد معتبر عند الفرنج يقبض المال فلما زالت الدولة بالغز ثم زالت دولة بني أيوب وولي سلطنة مصر الملوك من الترك إلى أن كانت أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ شرع الأمير ركن الدين بيبرس الشمسيّ الصالحيّ البخميّ في عمارتها في سنة تسع وخمسين وستمائة وتأنّق في عمارتها وبالغ في كثرة المصروف عليها فأنكر الملك الظاهر ذلك من فعله وقال له: يا أمير بدر الين أيّ شيء خليت للغزاة والترك فقال: صدقات السلطان والله يا خوند ما بنيت هذه الجار إلاّ حتى يصل خبرها إلى بلاد العدوّ ويُقالُ بعض مماليك السلطان عمّر دارًا غرم عليها مالًا عظيمًا فأُعجب من قوله ذلك السلطان وأنعم عليها بألف دينار عينًا وعدّ هذا من أعظم أنعام السطلان فجاء سعة هذه الدار باصطبلها وبستانها والحمّام بجانبها نحو فدّانين ورخامها من أبهج رخام عُمل في القاهرة وأحسنه صنعة فكثر تعجب الناس إذ ذاك من عِظمها لما كان فيه أمراء الدولة ورجالها حينئذٍ من الاقتصاد حتى أن الواحد منهم إذا صار أميرًا لا يتغير عن داره التي كان يسكنها وهو من الأجناد وعندما كملت عمارة هذه الدار وقفها وأشهد عليه بوقفها اثنين وتسعين عدلًا من جملتهم قاضي القضاة تقيّ الدين ابن دقيق العيد وقاضي القضاة تقيّ الدين بن بنت الأعز وقاضي القضاة تقيّ الدين بن رزين قبل ولايتهم القضاء في حال تحملهم الشهادة وما زالت بيد ورثة بيسرى إلى سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة. فشرهت نفس الأمير قوصون إلى أخذها وسأل السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في ذلك فأذن له في التحدّث مع ورثة بيسرى فأرسل إليهم ووعدهم ومنّاهم وأرضاهم حتى أذعنوا له فبعث السلطان إلى قاضي القضاة شرف الدين الحرّاني الحنبليّ يلتمس منه الحكم باستبدالها كما حكم باستبدال بيت قتال السبع وحمامّه الذي أنشأ جامعه بخط خارج الباب الجيد من الشارع فأجاب إلى ذلك ونزل إليها علاء الدين بن هلال الدولة شادّ الدواوين ومعه شهود لقيمة فقوّمت بمائة ألف درهم وتسعين ألف درهم نقرة وتكون الغبطة للأيتام عشرة آلاف درهم نقرة لتتم الجملة مائتي ألف درهم نقرة وحكم قاضي القضاة شرف الدين الحرّانيّ ببيعها وكان هذا الحكم مما شنع عليه فيه. ثم اختلفت الأيدي في الاستيلاء على هذه الدار واقتدى القضاة بعضهم ببعض في الحكم باستبدالها وآخر ما حم به من استبدالها في أعوام بضع وثمانين وسبعمائة فصارت من جملة الأوقاف الظاهرية برقوق وهي الآن بيد ابنة بيرم وكان لها باب بوّابته من أعظم ما عمل من البوابات بالقاهرة ويتوصل لى هذه الدار من هذا الباب وهو بجوار حمام بيسرى من شارع بين القصري وقد بنى تجاه هذا الباب حوانيت حتى خفي وصار يدخل إلى هذه الدار من باب آخر بخط الخرشتف. بيسرى: الأمير شمس الدين الصالحي بالخمي أحد مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب البحرية تنقل في الخدم حتى صار من أجلّ الأمراء في أيام الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ واشتهر بالشجاعة والكرم وعلو الهمة وكانت له عدّة مماليك راتب كل واحد منهم مائة رطل لحم وفيهم من له عليه في اليوم ستين عليقة لخيله وبلغ عليق خيله وخيل مماليكه في كل يوم ثلاثة آلاف عليقة سوى علف الجمال وكان ينعم بالألف دينار وبالخمسمائة غير مرّة ولما فرّق الملك العادل كتبغا المماليك على الأمراء بعث إليه بستين مملوكًا فأخرج إليهم في يومهم لكل واحد فرسين وبغلًا وشكا إليه استادار مكثرة خرجه وحسن له الاقتصاد في النفقة فحنق عليه وعزله وأقام غيره وقال لا يُرني وجهه أبدًا ولم يعرف عنه أنه شرب الماء في كوز واحد مرّتين وإنما يشرب كل مرّة في كوز جديد ثم لا يعاود الشرب منه وتنكر عليه الملك المنصور وقام من بعده انبه الملك الأشرف خليل فافرج عنه في سنة اثنين وتسعين وستمائة بعد عوده من دمشق بشفاعة الأمير بيدرا والأمير سنجر الشجاعيّ وأمر أن يحمل إليه تشريف كامل ويكتب له منشور بأمرة مائة فارس وأنه يلبس التشريف من السجن فجهُز التشريف وحُمل إليه المنشور في كيس حرير أطلس وعظم فيه تعظيمًا زائدًا وأثنى عليه ثناءً جمًا وسار إليه بيدر والشجاعيّ والدوادار والأفرم إلى السجن ليمشوا في خدمته إلى أن يقف بين يدي السلطان فامتنع من لبس التشريف والتزم بأيمان مغلظة أنه لا يدخل على السلطان إلا بقيده ولباسه الذي كان عليه في السجن وتسامعت الأمراء وأهل القلعة بخروجه فهرعوا إليه وكان لخروجه نهار عظيم ودخل على السلطان بقيده فأمر به ففك بين يديه وأفيض عليه التشريف فقبّل الأرض وأكرمه السلطان وأمره فنزل إلى داره وخرج الناس إلى رؤيته وسرّوا بخلاص فبعض إليه السلطان عشرين فرسًا وعشرين اكديشًا وعشرين بغلًا وأمر جميع الأمراء أن يبعثوا إليه فلم يبق أحد حتى سير إليها ما يقدر عليه من التحف والسلاح وبعث إليها أمير سلاح ألف دينار فصار يكتب بعد خروجه من السجن بيسرى الأشرفي بعدما كان يكتب بيسري الشمسيّ وما زال إلى أن تسلطن الملك المنصور لاجين فأخذ الأمير منكرتمر يغريه بالأمير بيسرى ويخوّفه منه وأنه قد تعين للسلطنة فعلمه كاشف الجيزة وأمَره أن يحضر الخدمة يومي الاثنين والخميس بالقلعة ويجلس رأس الميمنة تحت الطواشي حسام الدين بلال المغيثي لأجل كبره وتقدّمه ثم زاد منكرتمر في الإغراء به والسلطنة تستمهله إلى أن قبض عليه وسجنه في سنة سبع وتسعين وستمائة وأحاط بسائر موجوده وحبس عدّة من مماليكه فسر منكرتمر بمسكه سرورًا عظيمًا واستمرذ في السجن إلى أن مات في تاسع عشر شوّال سنة ثمان وتسعين وستمائة وعليه ديون كثيرة ودفن بتربته خارج باب النصر رحمه الله تعالى. قصر بشتاك: هذا القصر هو الآن تجاه الدار البيسرية وهو من جملة القصر الكبير الشرقيّ الذي كان مسكنًا للخفاء الفاطميين ويُسلك إليه من الباب الذي كان يُعرف في أيام عمارة القصر الكبير في زمن الخلفاء بباب البحر وهو يعرف اليوم بباب قصر بشتاك تجاه المدرسة الكاملية وما زال إلى أن اشتراه الأمير بدر الدين بكتاش الفخريّ المعروف بأمير سلاح وأنشأ دورًا واصطبلات ومساكن له ولحواشيه وصار ينزل إليه هو والأمير بدر الدين بسيرى عند انصرافهما من الخدمة السلطانية بقلعة الجبل في موكب عظيم زائد الحشمة ويدخل كل منهما إلى جاره وكان موضع هذا القصر عدّة مساجد فلم يتعرّض لهدمها وأبقاها على ما هي عليه فلما مات أمير سلاح وأخذ الأمير قوصون الدار البيسرية كما تقدّم ذكره أحب الأمير بشتاك أن يكون له أيضًا دار بالقاهرة وذلك أن قوصون وبشتاك كانا يتناظران في الأمور ويتضادّان في سائر الأحوال ويقصد كل منهما أن يسامي الآخر ويزيد عليه في التجمل فأخذ بشتاك يعمل في الاستيلاء على قصر أمير سلاح حتى اشتراه من ورثته فأخذ من السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون قطعة أرض كانت داخل هذا القصر من حقوق بيت المال وهدم دارًا كانت قد أُنشئت هناك. عرفت بدار قطوان الساقي وأُدخل ذلك في البناء إلاّ مسجدًا منها فإنه عمر وعرف اليوم بمسجد النجل فجاء هذا القصر من أعظم مباني القاهرة فإن ارتفاعه في الهواء أربعون ذراعًا ونزول أساس في الأرض مثل ذلك والماء يجري بأعلاه وله شبابيك من حديد تشرف على شارع القاهرة وينظر من اعلاه عامّة القاهرة والقلعة والنيل والبساتين وهو مشرق جليل مع حسن بنائه وتأنق زخرفته والمبالغة في تزويقه وترخيمه وأنشأ أيضًا في أسفله حوانيت كان يبلع فيها الحلوى وغيرها فصار الأمر أخيرًا كما كان أوّلًا بتسمية الشارع بين القصرين فإنه كان أوّلًا كما تقدّم بالقاهرة القصر الكبير الشرقي الذي قصر بشتاك وقصر بيسرى وما بينهما من الشارع يقال له بين القصري ومن لا علم له يظنّ إنما قيل لهذا الشارع بين القصرين لأجل قصر بيسرى وقصر بشتاك وليس هذا بصحيح وإنما قيل له بين القصرين قبل ذلك من حين بنيت القاهرة فإنه كان بين القصرين القصر الكبير الشرقيّ والقصر الصغير الغربيّ وقد تقدّم ذلك مشروحًا مبينًا. ولما أكمل بشتاك بناء هذا القصر والحوانيت التي في أسفله والخان المجاور له في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة لم يبارك له فيه ولا تمتع به وكان إذا نزل إليه ينقبض صدره ولا تنبسط نفسه ما دام فيه حتى يخرج منه فترك المجيء إليه فصار يتعاهده أحيانًا فيعتريه ما تقدّم ذكره فكرهه وباعه لزوجة بكتمر الساقي وتداوله ورثتها إلى أن أخذه السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون فاستقرّ بيد أولاده إلى أن تحكم الأمير الوزير المشير جمال الدين الأستادار في مصر. أقام من شهد عند قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم الحنفي بأن هذا القصر يضرّ بالجار والمار وأنه مستحق للإزالة والهدم كما عمل ذلك في غير موضع بالقاهرة فحكم له باستبدال وصار من جملة أملاكه فلما قتله الملك الناصر فرج بن برقوق استولى على سائر ما تركه وجعل هذا القصر فيما عينه للتربة التي أنشأها على قبر أبيه الملك الظاهر برقوق خارج باب النصر فاستمرّ في جملة أوقاف التربة المذكورة إلى أن قتل الملك الناصر بدمشق في حرب الأمير شيخ والأمير نوروز وقدم الأمير شخ إلى مصر هو والخليفة المستيعن بالله العباسي ابن محمد وقف له من بقي من أولاد جمال الدين وأقاربه وكان لأهل الدولة يومئذٍ بهم عناية قاضي القضاة صدر الدين عليّ بن الأدميّ الحنفيّ بارتجاع أملاك جمال الدين التي وقفها على ما كانت عليه فتسلمها أخوه وصار هذا القصر إليهم وهو الآن بيدهم. قصر الحجازية: هذا القصر بخط رحبة باب العيد بجوار المدرسة الحجازية كان يعرف أوّلًا بقصر الزمرد في أيام الخلفاء الفاطميين من أجل أنّ باب القصر الذي كان يعرف بباب الزمرد كان هناك كما تقدّم ذكره في هذا الكتاب عند ذكر القصور فلما زالت الدولة الفاطمية صار من جملة ما صار بيد ملوك بني أيوب واختلفت عليه الأيدي إلى أن اشتراه الأمير بدر الدين أمير مسعود بن خطير الحاجب من أولاد الملوك بني أيوب واستمرّ بيده إلى أن رسم بتسفيره من مصر إلى مدينة غزة واستقرّ نائب السلطنة بها في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وكاتب الأمير سيف الدين قوصون عليه وملّكه إيّاه فشرع في عمارة سبع قاعات لكل قاعة اصطبل ومنافع ومرافق وكانت مساحة ذلك عشرة أفدنة فمات قوصون قبل أن يتم بناء ما أراد من ذلك فصار يُعرف بقصر قوصون إلى أن اشترته خوند تتر الحجازية ابنة الملك الناصر محمد بن قلاوون وزوج الأمير ملكتمر الحجازيّ فعمرته الحجازية ابنة الملك الناصر محمد بن قلاوون وزوج الأمير ملكتمر الحجازي فعمرته عمارة ملوكية وتأنقت فيه تأنقًا زائدًا وأجرت الماء إلى أعلاه وعملت تحت القصر إصطبلًا كبيرًا لخيول خدّامها ساحة كبيرة يشرف عليها من شبابيك حديد فجاء شيئًا عجيبًا حسنه وأنشأت بجواره مدرستها التي تعرف إلى اليوم بالمدرسة الحجازية وجعلت هذا القصر من جملة ما هو موقوف عليها فلما ماتت سكنه الأمراء بالأجرة إلى أن عمر الأمير جمال الدين يوسف الأستادار داره المجاورة للمدرسة السابقية وتولى استادارية الملك النصاصر فرج صار يجلس برحبة هذا القصر والمقعد الذي كان بها وعمل القصر سجنًا يحبس فيه من يعاقبه من الوزراء والأعيان فصار موحشًا يروع النفوس ذكره لما قتل يه من الناس خنقًا وتحت العقوبة من بعد ما أقام دهرًا وهو مغنى صبابات وملعب أتراب وموطن أفراح ودار عز ومنزل لهو ومحل أماني النفوس ولذاتها ثم لما فحش كلب جمال الدين وشنع شرهه في اغتصاب الأوقاف أخذ هذا القصر يتشعث شيء من زخارفه وحم له قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم الحنفي باستبداله كما تقدّم الحكم في نظائره فقلع رخامه فلما قُتل صار معطلًا مدّة وهمّ الملك الناصر فرج ببنائه رباطًا ثم انثنى عزمه عن ذلك فلما عزم على المسير إلى محاربة الأمير شيخ والأمير نوروز في سنة أربع عشرة وثمانمائة نزل إليه الزير الصاحب سعد الدين إبراهيم بن البشري وقلع شبابيكه الحديد لتعمل آلات حرب وهو الآن بغير رخام ولا شبابيك قائم على أصوله لا يكاد ينتفع به إلا أن الأمير المشير بدر الدين حسن بن محمد الأستادار لما سكن في بيت الأمير جمال الدين جعل ساحة هذا القصر اصطبلًا لخيوله وصار يحبس في هذا القصر من يصادره أحيانًا. وفي رمضان سنة عشرين وثمانمائة ذكر الأمير فخر الدين عبد الغنيّ بن أبي الفرج الأستادار ما يجده المسجونون في السجن المستجدّ عند باب الفتوح بعد هدم خزانة شمائل من شدّة الضيق وكثرة الغم فعين هذا القصر ليكون سجنًا لأرباب الجرائم وأنعم على جهة وقف جمال الدين بعشرة آلاف درهم فلوسًا عن أجرة سنتين فشرعوا في عمل سجن وأزالوا كثيرًا من معالمه ثم ترك على ما بقي فيه ولم يتخذ سجنًا. قصر يلبغا اليحياوي: هذا القصر موضعه الآن مدرسة السلطان حسن المطلة على الرميلة تحت قلعة الجبل وكان قصرًا عظيمًا أمر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة ببنائه لسكن الأمير يلبغا اليحياوي وأن يُبنى أيضًا قصر يقابله برسم سكنى الأمير الطبغا الماردينيّ لتزايد رغبته فيهما وعظيم محبه لهما حتى يكونا تجاهه وينظر إليهما من قلعة الجبل فركب بنفسه إلى حيث سوق الخيل من الرميلة تحت القلعة وسار إلى حمام الملك السعيد وعيّن اصطبل الأمير أيدغمش أميراخور وكان تجاهها ليعمره هو وما يقابله قصرين متقابلين ويضاف إليه إصطبل الأمير طاشتمر الساقي واصطبل الجوق وأمر الأمير قوصون أن يشتري ما يجاور إصطبله من الأملاك ويوسع في إصطبله وجعل أمر هذه العمارة إلى الأمير اقبغا عبد الواحد فوقع الهدم فيما كان بجوار بيت الأمير قوصون وزيد في الإصطبل وجعل باب هذا الإصطبل من تجاه باب القلعة المعروف بباب السلسلة وأمر السلطان بالنفقة على العمارة من مال السلطان على يد النشو وكان للملك الناصر رغبة كبيرة في العمارة بحيث أنه أفرد لها ديوانًا وبلغ مصروفها في كل يوم اثني عشر ألف درهم نقرة واقل ما كان يصرف من ديوان العمارة في اليوم برسم العمارة مبلغ ثمانية آلاف درهم نقرة فلما كثر الاهتمام في بناء القصرين المذكورين وعظم الاجتهاد في عمارتهما وصار السلطان ينزل من القلعة لكشف العمل ويستحث على فراغهما وأوّل ما بدىء قصر يلبغا اليحياوي فعمل أساسه حضيرة واحدة انصرف عليها وحدها مبلغ أربعمائة ألف درهم نقرة ولم يبق في القاهرة ومصر صانع له تعلق في العمارة إلاّ وعمل فيها حتى كمل القصر فجاء في غاية الحسن وبلغت النفقة عليه مبلغ أربعمائة ألف ألف وستين ألف درهم نقرة منها ثمنلازورد خاصة مائة ألف درهم. فلما كملت العمارة نزل السلطان لرؤيتها وحضر يومئذٍ من عند الأمير سيف الدين طرغاوي نائب حلب تقدمة من جملتها عشرة أزواج بسط أحدها حرير وعدّة أواني من بلور ونحوه وخيل وبخاتي فأنعم بالجميع على الأمير يلبغا اليحياويّ وأمر الأمير أقبغا عبد الواحد أن ينزل إلى هذا القصر ومعه أخوان سلار برفقته وسار أرباب الوظائف لعمل مهم فبات النشو ناظر الخاص هناك لتعبية ما يحتاج إليه من اللحوم والتوابل ونحوها فلما تهيأ ذلك حضر سائر أمراء الدولة من أوّل النهار وأقاموا بقصر يلبغا اليحياوي في أكل وشرب ولهو وفي آخر النهار حضرت إليهم التشاريف السلطانية وعدّتها أحد عشر تشريفًا برسم أرباب الوظائف وهم: الأمير أقبغا عبد الواحد والأستادار والأمير قوصون الساقي والأمير بشتاك والأمير طقوزدمر أمير مجلس في آخرين وحضر لبقية الأمراء خلع وأقبية على قدر مراتبهم فلبس الجميع التشاريف والخلع والأقبية واركبوا الخيول المحضرة إليهم من الإصطبل السلطانيّ بسروج وكنابيش ما بين ذهب وفضة بحسب مراتبهم وساروا إلى منازلهم وذُبح في هذا المهمّ ستمائة رأس غنم وأربعون بقرة وعشرون فرسًا وعُمل فيه ثلثوائة قنطار سكر برسم المشروب فإن القوم يومئذٍ لم يكونوا يتظاهرون بشرب الخمر ولا شيء من المسكرات ألبتة ولا يجسر أحد على عمله في مهمّ ألبتة ومازالت هذه الدار باقية إلى أن هدمها السلطان الملك الناصر حسن وأنشأ موضعها مدرسته الموجودة الآن. إصطبل قوصون: هذا الإصطبل بجوار مدرسة حسن وله بابان باب من الشارع بجوار حدرة البقر وبابه الآخر تجاه باب السلسلة الذي يتوصل منه إلى الإصطبل السلطانيّ وقلعة الجبل أنشأه الأمير علم الدين سنج الجمقدار فأخذه منه الأمير سيف الدين قوصون وصرف له ثمنه من بيت المال فزاد فيه قوصون إصطبل الأمير سنقر الطويل وأمره الملك الناصر محمد بن قلاوون بعمارة هذا الإصطبل فبنى فيه كثيرًا وأدخل فيه عدّة عمائر ما بين دور وإصطبلات فجاء قصرًا عظيمًا إلى الغية وسكنه الأمير قوصون مدّة حياة الملك الناصر. فلما مات السلطان وقام من بعده ابنه الملك النصور أبو بكر عمل عليه قوصون وخلعه وأقام بعده بدله الملك الأشرف كجك بن الملك الناصر محمد فلما كان في سنة اثنين وأربعين وسبعمائة حدث في شهر رجب منها فتنة بين الأمير قوصون وبين الأمراء وكبيرهم أيدغمش أميراخور فنادى أيدغمش في العمّة يا كسابه عليكم بإصطبل قوصون إنهبوه هذا وقوصون محصور بقلعة الجبل فأقبلت العامّة من السؤال والغلمان والجند إلى إصطبل قوصون فمنعهم المماليك الذين كانوا فيه ورموهم بالنشاب وأتلفوا منهم عدّة فثارت مماليك الأمير يلبغا اليحياوي من أعلى قصر يلبغا وكان بجوار قصر قوصون حيث مدرسة السلطان حسن ورموا مماليك قوصون بالنشاب حتى انكفوا عن عن رمي النّهابة فاقتحم غوغاء الناس إصطبل وقوصون وانتهبوا ما كان بركاب خاناته وحواصله وكسروا باب القصر بالفؤس وصعدوا إليه بعدما تسلقوا إلى القصر من خارجه فخرجت مماليك قوصون من الإصطبل يدًا واحدة بالسلاح وشقوا القاهرة وخرجوا إلى ظاهر باب النصر يريدون الأمراء الواصلين من الشام فأتت النهابة على جميع ما في إصطبل قوصون من الخيل والسروج وحواصل المال التي كانت بالقصر وكانت تشتمل من أنواع المال والقماش والأواني الذهب والفضة على ما لا يُحدّ ولا يعدّ كثرة. وعندما خرجت العامّة بما نهبته وجدت مماليك الأمراء والأجناد قد وقفوا على باب الإصطبل في الرميلة لانتظار من يخرج وكان إذا خرج أحد بشيء من النهب أخذه منه أقوى منه فإن امتنع من إعطائه قُتل واحتمل النهابة أكياس الذهب ونثروها في الدهليز والطرق وظفروا بجواهر نفيسة وذخائر ملوكية وأمتعة جليلة القدر وأسلحة عظيمة وأقمشة مثمنة وجرّوا البسط الرومية والأمدية وما هو من عمل الشريف وتقاتلوا عليها وقطعوها قطعًا بالسكاكين وتقاسموها وكسّروا أواني البلور والصيني وقطعوا سلاسل الخيل الفضة والسروج الذهب والفضة وفكوا اللجم وكسروا الخركاوات وأتلفوا سترها وأغشيتها الأطلس والزركفت. وذكر عن كاتب قوصون أنه قال: أما الذهب المكيّس والفضة كان ينيف على أرعمائة ألف دينار وأما الزركش والحوايص والمعصبات ما بين خوانجات وأطباق فضة وذهب فإنه فوق المائة ألف دينار والبلور والمصاغ المعمول برسم النساء فإنه لا يحصر وكان هناك ثلاثة أكياس أطلس فيها جوهر قد جمعه في طول أيامه لكثرة شغفه بالجوهر لم يجمع مثله ملك كان ثمنه نحو المائة ألف دينار وكان في حاصله عدّة مائة وثمانين زوج بسط منها ما طوله من أربعين ذراعًا إلى ثلاثين عمل البلاد وستة عشر زوج من حرير وكان من جملة الخام نوبة خام جميعها أطلس معدنيّ قصب جميع ذلك نُهب وكُسر وقُطع وانح طّ سعر الذهب بديار مصر عقيب هذه النهبة من دار قوصون حتى بيع المثقال بأحد عشر درهمًا لكثرته في أيدي الناس بعدما كان سعر المثقال عشرين درهمًا ومن حينئذ تلاشى أمر هذا القصر لزوال رخامه في النهب وما برح مسكنًا لأكابر الأمراء وقد اشتهر أنه من الدور المشؤمة وقد أدركت في عمري غير واحد من الأمراء سكنه وآل أمره إلى ما لا خير فيه وممن سكنه: الأمير بركة الزينبيّ ونُهب نهبة فاحشة وأقام أعوام خرابًا لا يسكنه أحد ثم أُصلح وهو الآن من أجلّ دور القاهرة.
|